لا تخلو نفس بشر في هذه الدنيا من حب أو بغض، ومن نعم الله على المؤمنين أن امتن عليهم بأن ألف بين قلوبهم، وجعل من علامات تمام الإيمان أن يحب المرء في الله وأن يبغض في الله، وعلى ذلك، فأواصر المحبة مهما بلغت فهي مقطوعة لا محالة، إلا ما كان منها لوجه الله تعالى، أو كما قيل: [ما كان لغير الله انقطع وانفصل، وما كان لله دام واتصل].
حول التوجيهات الربانية، والوصايا النبوية التي كان عليه الصلاة والسلام يتعاهد بها صحابته، لا سيما فيما يتصل بعلاقات الود والأخوة بين بعضهم البعض، يقول فضيلة الدكتور عمر بن سعود العيد، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالمملكة العربية السعودية، أن من أجل الفضائل وأحب الأعمال أن تتناقل وتسرد وصايا رسول الله، حتى يتعلم الناس كيف كانت تربية النبي للمسلمين الأوائل، فمن اللطائف أن رسول الله كان يعطي كل صحابي وصية تناسبه، لأن الناس يختلفون في طبائعهم وتفكيرهم وأخلاقهم وما إلى ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أصحابه تمام المعرفة، وكان يعلم أي الوصايا سيكون سببا في صلاح قلب كل واحد منهم واستقامته، ولسنا بصدد ذكر الوصايا كلها، لكن لا بأس من بعض الأمثلة الموجزة:
حين كان يأتي الصحابي إلى النبي يسأله: "يا رسول الله أوصني"، كان النبي يقول لأحدهم : (لا تغضب) ويقول لآخر (لايزال لسانك رطبا بذكر الله) ويقول لثالث (أعني على نفسك بكثرة السجود).
ثم انظر كيف كان الرسول يأسر القلوب بلين نصحه ورقة توجيهه، حين قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (يا معاذ إني أحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) [رواه أحمد وأبو داوود]. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغرس في النفوس قيم الحب الصادق والمودة والإخلاص، كان يعلم الصحابة، ويعلم الناس من بعدهم أن أوثق عرى الإيمان هي الحب في الله.
واليوم نحن نتعطش لمثل هذه المعاني النبيلة، لأن هذه الفضائل لها أثر كبير في سلوك الإنسان، وفي قدرة المجتمعات على التعايش، وبها تفوز الأمم والأقوام فوزا عظيما، وليس أدل على ذلك من حديث النبي صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [رواه مسلم]، وأول تطبيق عملي لهذا الحديث كان حين آخى النبي بين المهاجرين والأنصار، لم ينظر للون ولا عرق ولا نسب، بل أخوة مجردة وصادقة، وإيثار ومحبة خالصة، وحين ترجم الصحابة هذه المحبة إلى سلوك عملي في علاقاتهم ومعاملاتهم، روي أن الواحد منهم كان يمشي على سفر من بلد لأخرى لا يبغي من أخيه إلا التواد والتزاور والمحبة في الله، من أجل هذا جاءت النصوص الشرعية لتمكن الحب والود في نفوس المؤمنين تمكينا راسخا، وهنا ينبغي أن نسأل أنفسنا عن أثر هذا الحديث في حياة مسلمي اليوم، حين يتجاور مسلمون من مشارق الأرض ومغاربها في الصف الواحد، وفي المسجد الواحد، أقدامهم متلاصقة، أكتافهم متراصة، ولكن هل قلوبهم متآلفة أم متنافرة؟ هل قربت وسائل النقل ووسائط التواصل الحديثة المسافات والحدود بين الناس أم زادتها بعدا؟ اليوم كلنا مشغول بأمور الدنيا، لا نعفي أنفسنا، لكننا ينبغي علينا أن نتواصى بالخير، وأن يذكر بعضنا بعضا بأن نحيي سنة المحبة في الله، بالتواصل والتزاور والتناصح بالبر والخير، لئلا تضعف فينا العزيمة ويزداد تقصيرنا، وتحجبنا مشاغل الحياة عن هذه الأعمال الصالحات، حتى نرزق التوفيق والعون من الله في جميع أمورنا، فالناس في أمس الحاجة للتذكير والنصيحة بين الحين والآخر امتثالا لقوله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].